فصل: تفسير الآية رقم (36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (35):

{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)}
{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لتأكيد إيجاب الصبر المستفاد من التسلية ببيان أنه أمرٌ لا محيدَ عنه أصلاً أي إن كان عظُم عليك وشقَّ إعراضُهم عن الإيمان بما جئت به من القرآن الكريم حسبما يُفصح عنه ما حُكي عنهم من تسميتهم له أساطيرَ الأولين وتنائيهم عنه ونهْيِهمُ الناسَ عنه، وقيل: إن الحارثَ بنَ عامرِ بنِ نوفلَ بنِ عبدِ منافٍ أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في محضر من قريش، فقال: يا محمدُ ائتنا بآيةٍ من عند الله كما كانت الأنبياءُ تفعل وأنا أصدقك فأبى الله أن يأتي بآية مما اقترحوا، فأعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك عليه لما أنه عليه الصلاة والسلام كان شديدَ الحِرْص على إيمان قومه، فكان إذا سألوا آيةً يودّ أن يُنزِلها الله تعالى طمعاً في إيمانهم فنزلت، فقوله تعالى: {إِعْرَاضُهُمْ} مرتفعٌ بكبُرَ وتقديم الجار والمجرور عليه لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخَّر، والجملة في محل النصب على أنها خبر لكان مفسرة لاسمها الذي هو ضميرُ الشأن ولا حاجة إلى تقدير قد، وقيل: اسم كان إعراضُهم وكبر جملة فعلية في محل النصب على أنها خبر لها مقدم على اسمها لأنه فعلٌ رافع لضميرٍ مستتر كما هو المشهور وعلى التقديرين فقوله تعالى: {فَإِن استطعت} الخ، شرطيةٌ أخرى محذوفةُ الجواب وقعتْ جواباً للشرط الأول، والمعنى إن شق عليك إعراضُهم عن الإيمان بما جئت به من البينات وعدمُ عدِّهم لها من قبيل الآيات وأحببتَ أن تجيبهم إلى ما سألوه اقتراحاً فإن استطعت {أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً} أي سَرَباً ومنفَذاً {فِى الارض} تنفُذ فيه إلى جَوفها {أَوْ سُلَّماً} أي مصعداً {فِى السماء} تعرج به فيها {فَتَأْتِيَهُمْ} منهما {بِئَايَةٍ} مما اقترحوه فافعلْ وقد جُوِّز أن يكون ابتغاؤهما نفسَ الإتيان بالآية فالفاء في {فتأتيَهم} حينئذ تفسيرية وتنوينُ {آية} للتفخيم أي فإن استطعت أن تبتغيَهما فتجعلَ ذلك آيةً لهم فافعل، والظرفان متعلقان بمحذوفين هما نعتان {لِنفقاً وسلماً} والأول لمجرد التأكيد إذ النفقُ لا يكون إلا في الأرض، أو بتبتغي، وقد جُوِّز تعلقُهما بمحذوف وقع حالاً من فاعل تبتغي أي أن تبتغي نفقاً كائناً أنت في الأرض أو سلماً كائناً في السماء، وفيه من الدلالة على تبالُغِ حِرْصِه عليه الصلاة والسلام على إسلام قومه وتراميه إلى حيث لو قدَر على أن يأتيَ بآيةٍ من تحت الأرض أو من فوق السماء لفعل رجاءً لإيمانهم ما لا يخفى، وإيثار الابتغاءِ على الاتخاذ ونحوه للإيذان بأن ما ذُكر من النفق والسُلّم مما لا يُستطاع ابتغاؤه فكيف باتخاذه.
{وَلَوْ شَاء الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى} أي لو شاء الله تعالى أن يجمعهم على ما أنتم عليه من الهُدى لفعله بأن يوقِّفهم للإتيان فيؤمنوا معكم ولكن لم يشأ لعدم صَرفِ اختيارِهم إلى جانب الهُدى مع تمكنِّهم التامِّ منه في مشاهدتهم للآياتِ الداعية إليه لا أنه تعالى لم يوقِّفْهم له مع توجُّهِهِم إلى تحصيله.
وقيل: لو شاء الله لجمعهم عليه بأن يأتيَهم بآيةٍ ملجئةٍ إليه ولكن لم يفعلْه لخروجه عن الحِكْمة.
وقوله تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} نهيٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من الحرص الشديدِ على إسلامهم والميل إلى إتيان ما يقترحونه من الآيات طمعاً في إيمانهم، مرتَّبٌ على بيان عدمِ تعلّق مشيئته تعالى بهدايتهم، والمعنى وإذا عرفت أنه تعالى لم يشأ هدايتهم وإيمانهم بأحد الوجهين فلا تكونَنَّ بالحرص الشديدِ على إسلامهم أو الميلِ إلى نزول مقترحاتِهم من الجاهلين بدقائق شؤونِه تعالى التي من جملتها ما ذُكر من عدم تعلُّق مشيئتِه تعالى بإيمانهم، أما اختياراً فلعدم توجُّههم إليه، وأما اضطراراً فلخُروجه عن الحكمة التشريعيةِ المؤسسةِ على الاختيار، ويجوز أن يُرادَ بالجاهلين على الوجه الثاني المقترِحون، ويُراد بالنهْي منعُه عليه الصلاة والسلام من المساعدة على اقتراحهم، وإيرادُهم بعُنوان الجهل دون الكفر ونحوِه لتحقيق مَناطِ النهْي الذي هو الوصفُ الجامع بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم.

.تفسير الآية رقم (36):

{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)}
{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ} تقريرٌ لما مر من أن على قلوبهم أكنةً مانعة من الفقه، وفي آذانهم وَقراً حاجزاً من السماع، وتحقيقٌ لكونهم بذلك من قبيل الموتى لا يُتصور منهم الإيمانُ البتةَ، والاستجابةُ الإجابةُ المقارنة للقَبول، أي إنما يَقبلُ دعوتَك إلى الإيمان الذين يسمعون ما يلقى إليهم سماعَ تفهمٍ وتدبُّر دون الموتى الذين هؤلاء منهم كقوله تعالى: {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى}
وقوله تعالى: {والموتى يَبْعَثُهُمُ الله} تمثيلٌ لاختصاصه تعالى بالقدرة على توفيقهم للإيمان باختصاصه تعالى بالقدرة على بعث الموتى من القبور، وقيل: بيانٌ لاستمرارهم على الكفر وعدمِ إقلاعهم عنه أصلاً على أن الموتى من القبور.
وقيل: بيان مستعارٌ للكفرة بناءً على تشبيه جهلهم بموتهم، أي وهؤلاء الكفرة يبعثهم الله تعالى من قبورهم {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} للجزاء، فحينئذ يستجيبون وأما قبل ذلك فلا سبيل إليه وقرئ {يَرْجِعون} على البناء للفاعل من رجَع رُجوعاً والمشهورُ أوفى بحق المقام لإنبائه عن كون مرجِعِهم إليه تعالى بطريق الاضطرار.

.تفسير الآية رقم (37):

{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)}
{وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} حكايةٌ لبعضٍ آخَرَ من أباطيلهم بعد حكايةِ ما قالوا في حق القرآن الكريم وبيانِ ما يتعلّق به والقائلون رؤساءُ قريشٍ وقيل: الحارثُ بنُ عامر بنِ نَوْفلَ وأصحابُه، ولقد بلغت بهم الضلالةُ والطغيان إلى حيث لم يقتنعوا بما شاهدوه من البينات التي تخِرُّ لها صمُّ الجبال حتى اجترأوا على ادِّعاء أنها ليست من قبيل الآياتِ وإنما هي ما اقترحوه من الخوارقِ الملجئةِ أو المُعْقِبة للعذاب كما قالوا: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} الآية، والتنزيل بمعنى الإنزال كما ينبىء عنه القراءة بالتخفيف فيما سيأتي، وما يفيده التعرّض لعنوان ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من الإشعار بالعلّية إنما هو بطريق التعريض بالتهكّم من جهتهم، وإطلاق الآية في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزّلٍ ءايَةً} مع أن المرادَ بها ما هو من الخوارق المذكورةِ لا آيةٌ ما من الآيات، لفساد المعنى مجاراةً معهم على زعمهم، ويجوز أن يرادَ بها آيةٌ مُوجبةٌ لهلاكهم كإنزال ملائكةِ العذاب ونحوه على أن تنوينها للتفخيم والتهويل كما أن إظهارَ الاسمِ الجليل لتربية المهابةِ مع ما فيه من الإشعار بعِلّة القُدرة الباهرةِ، والاقتصار في الجواب على بيان قدرته تعالى على تنزيلِها مع أنها ليست في حيز الإنكار للإيذان بأن عدمَ تنزيله إياها مع قدرته عليه لحكمةٍ بالغة يجب معرفتها وهم عنها غافلون، كما ينبىء عنه الاستدراكُ بقوله تعالى: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي ليسوا من أهل العلم على أن المفعول مطروحٌ بالكلية، أو لا يعلمون شيئاً على أنه محذوفٌ مدلولٌ عليه بقرينةِ المقام. والمعنى أنه تعالى قادر على أن ينزل آيةً من ذلك أو آيةً أيَّ آية ولكن أكثرهم لا يعلمون فلا يدرون أن عدمَ تنزيلِها مع ظهور قدرتِه عليه لما أن في تنزيلها قلْعاً لأساسِ التكليف المبنيِّ على قاعدة الاختيار، أو استئصالاً لهم بالكلية فيقترحونها جهلاً ويتخذون عدم تنزيلها ذريعةً إلى التكذيب، وتخصيصُ عدم العلم بأكثرهم لما أن بعضَهم واقفون على حقيقة الحال وإنما يفعلون مكابرةً وعناداً.

.تفسير الآيات (38- 39):

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)}
وقوله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض} الخ، كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لبيان كمال قدرتِه عز وجل وشمول علمه وسعةِ تدبيرِه ليكون كالدليل على أنه تعالى قادرٌ على تنزيل الآية، وإنما لا يُنزِّلُها محافظةً على الحِكَم البالغةِ، وزيادةُ {من} لتأكيد الاستغراق وهي متعلقةٌ بمحذوفٍ هو وصفٌ لدابة مفيد لزيادة التعميم، كأنه قيل: وما فردٌ من أفراد الدوابِّ يستقرّ في قُطر من أقطار الأرض وكذا زيادةُ الوصف في قوله تعالى: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} مع ما فيه من زيادة التقرير أي ولا طائرٍ من الطيور يطير في ناحية من نواحي الجو بجناحيه كما هو المشاهَدُ المعتاد، وقرئ {ولا طائرٌ} بالرفع عطفاً على محل الجار والمجرور كأنه قيل: وما دابة ولا طائر {إِلاَّ أُمَمٌ} أي طوائفُ متخالفةٌ، والجمع باعتبار المعنى كأنه قيل: وما مِنْ دوابَّ ولا طيرٍ إلا أممِ {أمثالكم} أي كلُّ أمة منها مثلُكم في أن أحوالها محفوظةٌ وأمورَها مقنَّنة ومصالحَها مرعيةٌ جاريةٌ على سَنن السَّداد، ومنتظمةٌ في سلك التقديرات الإلهية والتدبيراتِ الربانية {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَىْء} يقال: فرَّط في الشيء أي ضيَّعه وتركه، قال ساعدة بن حُوَية:
معه سِقاءٌ لا يُفرِّط حملَه

أي لا يتركه ولا يفارقه ويقال: فرّط في الشيء أي أهمل ما ينبغي أن يكون فيه وأغفله فقوله تعالى: {فِى الكتاب} أي في القرآن على الأول ظرفُ لغوٍ، وقوله تعالى: {مِن شَىْء} مفعولٌ لفرّطنا و{من} مزيدة للاستغراق أي ما تركنا في القرآن شيئاً من الأشياء المُهمّة التي من جملتها بيانُ أنه تعالى مراعٍ لمصالحِ جميعِ مخلوقاته على ما ينبغي، وعلى الثاني مفعول للفعل ومن شيء في موضع المصدر، أي ما جعلنا الكتاب مفرَّطاً فيه شيئاً من التفريط بل ذكرنا فيه كلَّ ما لابد من ذكره. وأياً ما كان فالجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبلها، وقيل: الكتابُ اللوْح، فالمراد بالاعتراضِ الإشارة إلى أن أحوالَ الأمم مستقصاةٌ في اللوح المحفوظ غيرُ مقصورة على هذا القدر المُجمل، وقرئ {فَرَطنا} بالتخفيف.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} بيانٌ لأحوال الأمم المذكورة في الآخرة بعد بيان أحوالها في الدنيا. وإيرادُ ضميرها على صيغة جمع العقلاء لإجرائها مُجراهم، والتعبير عنها بالأمم أي إلى مالك أمورهم يحشرون يوم القيامة كدأبكم لاإلى غيره فيجازيهم فيُنصِفُ بعضَهم من بعض حتى يبلُغ من عدله أن يأخذ للجّماءِ من القَرْناء. وقيل: حشرُها موتها. ويأباه مقامُ تهويلِ الخطب وتفظيعِ الحال.
وقوله تعالى: {والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا} متعلق بقوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَىْء} والموصول عبارةٌ عن المعهودِين في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} الآيات ومحلُه الرفعُ على الابتداء خبرُه ما بعده أي أوردنا في القرآن جميعَ الأمور المهمة وأزَحْنا به العِللَ والأعذارَ والذين كذبوا بآياتنا التي هي منه {صُمٌّ} لا يسمعونها سمعَ تدبرٍ وفهمٍ فلذلك يسمّونها أساطيرَ الأولين ولا يعدّونها من الآيات ويقترحون غيرها {وَبُكْمٌ} لا يقدِرون على أن ينطِقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون دعوتك بها وقوله تعالى: {فِى الظلمات} إما متعلقٌ بمحذوفٍ وقع حالاً من المستكنِّ في الخبر كأنه قيل: ضالون كائنين في الظلمات أو صفةً لبكْم أي بُكم كائنون في الظلمات، والمراد به بيانُ كمالِ عراقتهم في الجهل وسوء الحال فإن الأصمَّ الأبكمَ إذا كان بصيراً ربما يَفهم شيئاً بإشارةِ غيرِه وإن لم يفهَمْه بعبارته، وكذا يُشعِرُ غيرَه بما في ضميره بالإشارة وإن كان معزولاً عن العبارة، وأما إذا كان مع ذلك أعمى أو كان في الظلمات فينسدّ عليه بابُ الفهم والتفهيم بالكلية، وقوله تعالى: {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ} تحقيقٌ للحق وتقريرٌ لما سبقَ من حالهم ببيانِ أنهم من أهل الطبْعِ لا يتأتَّى منهم الإيمانُ أصلاً، فمَنْ مبتدأ خبرُه ما بعده ومفعولُ المشيئة محذوفٌ على القاعدة المستمرَّة من وقوعها شرطاً وكونِ مفعولها مضمونَ الجزاء وانتفاءِ الغرابة في تعلقها به أي من يشأ الله إضلالَه أي أن يخلُق فيه الضلالَ يضلِلْه أي يخلُقه فيه ولكن لا ابتداءً بطريق الجبر من غير أن يكون له دخلٌ ما في ذلك بل عند صَرْفِ اختياره إلى كَسْبه وتحصيلِه وقِسْ عليه قوله تعالى: {وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ} لا يضِلُّ من ذهب إليه ولا يزِلُّ من ثبَت قدمُه عليه.

.تفسير الآيات (40- 41):

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)}
{قُلْ أَرَأَيْتُكُم} أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُبكِّتَهم ويُلقِمَهم الحجرَ بما لا سبيل لهم إلى النكير، والكاف حرف جيء به لتأكيد الخطاب لا محلَّ له من الإعراب ومبنى التركيب وإن كان على الاستخبار عن الرؤية قلبية كانت أو بصَرية لكنّ المرادَ به الاستخبارُ عن مُتعلَّقِها أي أخبروني {إِنْ أتاكم عَذَابُ الله} حسبما أتى الأممَ السابقةَ من أنواع العذاب الدنيوي {أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة} التي لا محيصَ عنها البتة {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} هذا مناطُ الاستخبار ومحطّ التبكيت وقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ صادقين} متعلق بأرأيتكم مؤكِّد للتبكيت كاشفٌ عن كذبهم، وجوابُ الشرط محذوفٌ ثقةً بدلالة المذكور عليه أي إن كنتم صادقين في أن أصنامكم آلهةٌ كما أنها دعواكم المعروفةُ، أو إن كنتم قوماً صادقين فأخبروني أغيرَ الله تدعون إن أتاكم عذابُ الله الخ، فإن صدقهم بأيِّ معنى كان من موجبات إخبارِهم بدعائهم غيرَه سبحانه، وأما جعلُ الجواب ما يدل عليه قولُه تعالى: {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} أعني فادعوه على أن الضمير لغير الله فمُخِلٌّ بجزالة النظم الكريم، كيف لا والمطلوبُ منهم إنما هو الإخبارُ بدعائهم غيرَه تعالى عند إتيانِ ما يأتي لا نفسُ دعائهم إياه، وقوله تعالى: {بَلْ إياه تَدْعُونَ} عطفٌ على جملة منفيةٍ ينْبىء عنها الجملةُ التي تعلقَ بها الاستخبارُ إنباءً جلياً كأنه قيل: لا غيرَه تعالى تدعون بل إياه تدعون وقوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} أي إلى كشفه، عطفٌ على تدعون أي فيكشفه إثرَ دعائِكم، وقوله تعالى: {إِن شَاء} أي إن شاء كشفَه لبيانِ أن قبولَ دعائِهم غيرُ مطَّردٍ، بل هو تابعٌ لمشيئته المبنيةِ على حِكَمٍ خفيةٍ قد استأثر الله تعالى بعلمها فقد يقبلُه كما في بعض دعواتهم المتعلقةِ بكشف العذاب الدنيوي، وقد لا يقبله كما في بعضٍ آخَرَ منها وفي جميع ما يتعلق بكشف العذابِ الأخرويِّ الذي من جملته الساعةُ. وقوله تعالى: {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} أي تتركون ما تشركونه به تعالى من الأصنام تركاً كلياً. عطفٌ على تدعون أيضاً وتوسيطُ الكشفِ بينهما مع تقارنهما وتأخُرِ الكشف عنهما لإظهار كمال العنايةِ بشأن الكشفِ والأيذان بترتّبه على الدعاء خاصةً.

.تفسير الآيات (42- 44):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)}
وقولُه تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا} كلام مستأنفٌ مَسوقٌ لبيان أن منهم من لا يدعو الله تعالى عند إتيانِ العذاب أيضاً لتماديهم في الغيِّ والضلال لا يتأثرون بالزواجر التكوينية كما لا يتأثرون بالزواجر التنزيلية. وتصديرُه بالجملة القَسَمية لإظهار مزيدِ الاهتمام بمضمونه، ومفعول {أرسلنا} محذوف لما أن مقتضى المقام بيانُ حال المرسَل إليهم لا حالِ المرسلين، أي وبالله لقد أرسلنا رسلاً {إلى أُمَمٍ} كثيرة {مِن قَبْلِكَ} أي كائنة من زمان قبلَ زمانك {فأخذناهم} أي فكذبوا رسلهم فأخذناهم {بالبأساء} أي بالشدة والفقر {والضراء} أي الضرر والآفات وهما صيغتا تأنيثٍ لا مذكر لهما {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} أي لكي يدعُوا الله تعالى في كشفها بالتضرّع والتذلل ويتوبوا إليه من كفرهم ومعاصيهم {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} أي فلم يتضرعوا حينئذ مع تحقق ما يستدعيه {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} استدراكٌ عما قبله أي فلم يتضرعوا إليه تعالى برقةِ القلب والخضوع، مع تحقق ما يدعوهم إليه، ولكن ظهر منهم نقيضُه حيث قستْ قلوبُهم أي استمرتْ على ما هي عليه من القساوة أو ازدادَتْ قساوةً كقولك: لم يُكرِمْني إذ جئتُه ولكن أهانني {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ} من الكفر والمعاصي فلم يُخْطِروا ببالهم أنّ ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله وقيل: الاستدراك لبيان أنه لم يكن لهم في ترك التضرُّع عذرٌ سوى قسوةِ قلوبهم والإعجابِ بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم وقوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ} عطفٌ على مقدَّر ينساق إليه النظمُ الكريم أي فانهمَكوا فيه ونسُوا ما ذُكَّروا به من البأساء والضّراء، فلما نسوه {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء} من فنون النَّعْماء على منهاج الاستدراج، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «مُكِر بالقوم ورب الكعبة» وقرئ {فتّحنا} بالتشديد للتكثير وفي ترتيب الفتح على النسيان المذكور إشعارٌ بأن التذكر في الجملة غير خالٍ عن النفع، و{حتى} في قوله تعالى: {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ} هي التي يُبتدأ بها الكلام دخلت على الجملة الشرطية كما في قوله تعالى: {حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا} الآية ونظائرِه، وهي مع ذلك غاية لقوله تعالى: {فَتَحْنَا} أو لما يدل هم عليه كأنه قيل: ففعلوا ما فعلوا حتى إذا اطمأنوا بما أتيح لهم وبطِروا وأشِروا {أخذناهم بَغْتَةً} أي نزل بهم عذابنا فجأةً ليكون أشدَّ عليهم وقعاً وأفظع هولاً {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} متحسِّرون غاية الحسرة آيسون من كل خير، واجمون، وفي الجملة الاسمية دلالة على استقرارهم على تلك الحالة الفظيعة.